سورة هود - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


قوله تعالى: {أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} قال ابن عباس: لم يُعجزوني أن آمر الأرض فتُخسف بهم. {وما كان لهم من دون الله من أولياء} أي: لا وليِّ لهم ممن يعبدون يمنعهم مني. وقال ابن الأنباري: لما كانت عادة العرب جارية بقولهم: لا وزَرَ لك مني ولا نَفَق، يعنون بالوزر: الجبل، والنفق: السرَبَ، وكلاهما يلجأ إِليه الخائف، أعلم الله تعالى أن هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هرباً، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من الأرض ويُلجأ إِليه. قال: وقوله: {من أولياءَ} يقتضي محذوفاً، تلخيصه: من أولياءَ يمنعونهم من عذاب الله، فحذف هذا لشهرته.
قوله تعالى: {يضاعَف لهم العذاب} يعني الرؤساء الصادِّين عن سبيل الله، وذلك لإِضلالهم أتباعهم واقتداءِ غيرهم بهم. وقال الزجاج: {لم يكونوا معجزين في الأرض} أي: في دار الدنيا، ولا لهم ولي يمنع من انتقام الله، ثم استأنف {يضاعف لهم العذاب} لعظم كفرهم بنبيه وبالبعث والنشور.
قوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع} فيمن عني بهذا قولان:
أحدهما: أنهم الكفار. ثم في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم لم يقدروا على استماع الخير، وإِبصار الحق، وفعل الطاعة، لأن الله تعالى حال بينهم وبين ذلك، هذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أن المعنى: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون حُجج الله ولا يعتبرون بها، فحذف الباء، كما تقول العرب: لأجزينَّك ما عملت، وبما عملت، ذكره الفراء، وأنشد ابن الأنباري في الاحتجاج له:
نُغالي اللحمَ للأضياف نيِئا *** ونبذُله إِذا نضِجَ القُدورُ
أراد: نغالي باللحم.
والثالث: أنهم من شدة كفرهم وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يستطيعون أن يتفهموا ما يقول، قاله الزجاج.
والقول الثاني: أنهم الأصنام، فالمعنى: ما كان للآلهة سمع ولا بصر، فلم تستطع لذلك السمع، ولم تكن تبصر. فعلى هذا، يرجع قوله: {ما كانوا} إِلى أوليائهم، وهي الأصنام، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس أيضاً.


قوله تعالى: {لا جرم} قال ابن عباس: يريد: حقاً إِنهم الأخسرون. وقال الفراء: {لا جرم} كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك، وكثر استعمالهم إِياها حتى صارت بمنزلة حقا، ألا ترى أن العرب تقول: لا جرم لآتينَّك، لا جرم لقد أحسنت، وأصلها من جرمتُ، أي: كسبت الذنب. قال الزجاج: ومعنى {لا جرم}: {لا} نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى: لا ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون، أي: كسب لهم ذلك الفعلُ الخسرانَ. وذكر ابن الأنباري أن {لا} رد على أهل الكفر فيما قدَّروه من اندفاع الشر عنهم في الآخرة، والمعنى: لا يندفع عنهم عذابي، ولا يجدون ولياً يصرف عنهم نقمتي، ثم ابتدأ مستأنفاً {جرم}، قال: وفيها قولان:
أحدهما: أنها بمعنى: كسب كفرهم وما قدَّروا من الباطل وقوعَ العذاب بهم. ف {جرم} فعل ماض، معناه: كسب، وفاعله مُضمر فيه من ذكر الكفر وتقرير الباطل.
والثاني: أن معنى جرم: أحقَّ وصحَّحَ، وهو فعل ماض، وفاعله مضمر فيه، والمعنى: أحقَّ كفرُهم وقوعَ العذاب والخسران بهم، قال الشاعر:
ولقد طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طعنةً *** جرمت فزارة بعدها أن يَغْضَبُوا
أراد: حقت الطعنةُ فزارة بالغضب. ومن العرب من يغيِّرُ لفظ {جرم} مع {لا} خاصة، فيقول بعضهم: {لا جُرْم}، ويقول آخرون: لا جَرْ باسقاط الميم، ويقال: لاذا جرم ولاذا جر بغير ميم، ولا إِن ذا جرم ولا عن ذا جرم، ومعنى اللغات كلها: حقاً.
قوله تعالى: {وأخبتوا إِلى ربهم} فيه سبعة أقوال:
أحدها: خافوا ربهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أنابوا إلى ربهم، رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: ثابوا إِلى ربهم، قاله قتادة.
والرابع: اطمأنوا، قاله مجاهد.
والخامس: أخلصوا، قاله مقاتل.
والسادس: تخشَّعوا لربهم، قاله الفراء.
والسابع: تواضعوا لربهم، قاله ابن قتيبة.
فإن قيل: لم أوثرت {إِلى} على اللام في قوله: {وأخبتوا إِلى ربهم}، والعادة جارية بأن يقال: أخبتوا لربهم؟
فالجواب: أن المعنى: وَجَّهوا خوفَهم وخشوعهم وإِخلاصهم إِلى ربهم، واطمأنوا إِلى ربهم. قال الفراء: وربما جعلت العرب {إِلى} في موضع اللام، كقوله: {بأن ربك أوحى لها} [الزلزال: 5]، وقوله: {الذي هدانا لهذا} [الأعراف: 43]. وقد يجوز في العربية: فلان يخبت إِلى الله، يريد: يفعل ذلك موجهَه إِلى الله. قال بعض المفسرين: هذه الآية نازلة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قبلها نازل في المشركين. ثم ضرب للفريقين مثلاً، فقال: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم} قال مجاهد: الفريقان: المؤمن والكافر. فأما الأعمى والأصم فهو الكافر، وأما البصير والسميع فهو المؤمن. قال قتادة: الكافر عَمِيَ عن الحق وصُمَّ عنه، والمؤمن أبصرَ الحق وسمعَه ثم انتفع به.
وقال أبو عبيدة: في الكلام ضمير، تقديره: مثل الفريقين كمثل الأعمى. وقال الزجاج: مثل الفريقين المسلِمَين كالبصير والسميع، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم، لأنهم في عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من لايسمع ولا يبصر.
قوله تعالى: {هل يستويان مثلاً} أي: هل يستويان في المشابهة؟
والمعنى: كما لا يستويان عندكم، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله. وقال أبو عبيدة: {هل} هاهنا بمعنى الإِيجاب، لا بمعنى الاستفهام، والمعنى: لا يستويان. قال الفراء: وإِنما لم يقل: {يستوون} لأن الأعمى والأصم من صفةِ واحدٍ، والسميع والبصير من صفةِ واحدٍ، كقول القائل: مررت بالعاقل واللبيب، وهو يعني واحداً، قال الشاعر:
وما أدْرِي إِذا يمَّمْتُ أرضًا *** أريدُ الخيْرَ أيّهما يليني
فقال: أيهما. وإِنما ذكر الخير وحده، لأن المعنى يُعرف، إِذ المبتغي للخير متَّقٍ للشر. وقال ابن الأنباري: الأعمى والأصم صفتان لكافر، والسميع والبصير صفتان لمؤمن، فرُدَّ الفعلُ إِلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة، كما تقول: العاقل والعالم، والظالم والجاهل، حضرا مجلسي، فتثنِّي الخبر بعد ذكرك أربعة، لأن الموصوف بالعلم هو الموصوف بالعقل، وكذلك المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظلم، فلما كان المنعوتان اثنين، رجع الخبر إِليهما، ولم يُلتفت إِلى تفريق الأوصاف، ألا ترى أنه يسوغ أن تقول: الأديب واللبيب والكريم والجميل قصدني، فتوحِّد الفعل بعد أوصاف لعلة أن الموصوف بهن واحد، ولا يمتنع عطف النعوت على النعوت بحروف العطف، والموصوفُ واحد، فقد قال تعالى: {التائبون العابدون} [التوبة: 112] ثم قال: {الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر} فلم يقتض دخولُ الواو وقوعَ خلاف بين الآمرين والناهين، وقد قيل: الآمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر في حال أمره، وكان دخول الواو دلالة على الآمر بالمعروف، لأن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر، كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين، ويدل أيضاً على أن العرب تنسق النعت على النعت والمنعوت واحد، كقول الشاعر يخاطب سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان:
يَظُنُّ سعيدٌ وابنُ عمروٍ بأننَّي *** إِذا سامَني ذلاً أكونُ به أرْضَى
فنسق ابن عمرو على سعيد، وهو سعيد.


قوله تعالى: {ولقد ارسلنا نوحاً إِلى قومه أني} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي {أني} بفتح الألف، والتقدير: أرسلناه بأني، وكأن الوجه بأنه لهم نذير، ولكنه على الرجوع من الإِخبار عن الغائب إِلى خطاب نوح قومه. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة {إِني} بكسر الألف، فحملوه على القول المضمر، والتقدير: فقال لهم: إِني لكم نذير.
قوله تعالى: {ما نراك إِلا بشراً مثلنا} أي: إِنساناً مثلنا، لا فضل لك علينا. فأما الأراذل، فقال ابن عباس: هم السَّفَلة. وقال ابن قتيبة: هم جمع {أرذل}، يقال: رجل رَذْل، وقد رَذُل رذالة ورُذُولة. ومعنى الأراذل: الشرار.
قوله تعالى: {بادي الرأي} قرأ الأكثرون {بادِيَ} بغير همز. وقرأ أبو عمرو بالهمز بعد الدال. وكلهم همز {الرأي} غير أبي عمرو. وللعلماء في معنى {بادي} إذا لم يُهمز ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المعنى: ما نرى أتباعك إِلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا، هذا مذهب مقاتل في آخرين.
والثاني: أن المعنى أن هؤلاء القوم اتَّبعوك في ظاهر ما يُرى منهم، وطويَّتُهم على خلافك.
والثالث: أن المعنى: اتبعوك في ظاهر رأيهم، ولم يتدبروا ما قلتَ، ولو رجعوا إِلى التفكر لم يتبعوك، ذكر هذين القولين الزجاج. قال ابن الأنباري: وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز، لأنه مِن بدا، يبدو: إِذا ظهر. فأما من همز {بادئ} فمعناه: ابتداء الرأي، أي: اتَّبعوك أول ما ابتدؤوا ينظرون، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك.
قوله تعالى: {وما نرى لكم علينا من فضل} فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: من فضل في الخلق، قاله ابن عباس.
والثاني: في الملك والمال ونحو ذلك، قاله مقاتل.
والثالث: ما فُضِّلتم باتِّباعكم نوحاً، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {بل نظنكم كاذبين} فيه قولان:
أحدهما: نتيقنكم، قاله الكلبي.
والثاني: نحسبكم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {أرأيتم إِن كنت على بينة من ربي} أي: على يقين وبصيرة. قال ابن الأنباري: وقوله: {إِن كنت} شرط لا يوجب شكّاً يلحقه، لكن الشك يلحق المخاطَبين من أهل الزيغ، فتقديره: إِن كنتُ على بينة من ربي عندكم. {وآتاني رحمة من عنده} فيها قولان:
أحدهما: أنها النبوَّة، قاله ابن عباس.
والثاني: الهداية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {فعُمِّيت عليكم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {فَعَمِيَتْ} بتخفيف الميم وفتح العين. قال ابن قتيبة: والمعنى: عميتم عنها، يقال: عمي عليَّ هذا الأمر: إِذا لم أفهمه، وعميت عنه بمعنى. قال الفراء: وهذا مما حوَّلت العرب الفعل إِليه، وهو في الأصل لغيره، كقولهم: دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي، وإِنما الإِصبع تدخل في الخاتم، والرجل في الخف، واستجازوا ذلك إِذ كان المعنى معروفاً.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {فعُمِّيَتْ} بضم العين وتشديد الميم. قال ابن الأنباري: ومعنى ذلك: فعمّاها الله عليكم إِذ كنتم ممن حُكم عليه بالشقاء. وكذلك قرأ أُبَيّ بن كعب، والأعمش: {فعمّاها عليكم}
وفي المشار إليها قولان:
أحدهما: البيِّنة.
والثاني: الرحمة.
قوله تعالى: {أنلزمكموها} أي: أنُلزمكم قبولها؟ وهذا استفهام معناه الإِنكار، يقول: لانقدر أن نُلزمكم من ذات أنفسنا. قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يملك ذلك. وقيل: كان مراد نوح عليه السلام ردَّ قولهم: {وما نرى لكم علينا من فضل} فبيَّن فضله وفضل مَن آمن به بأنه على بيِّنة من ربه، وقد آتاه رحمةً من عنده، وسُلب المكذِّبون ذلك.
قوله تعالى: {لا أسألكم عليه} أي: على نصحي ودعائي إياكم {مالاً} فتتهموني. وقال ابن الأنباري: لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإِيمان، جاز تذكيرها.
قوله تعالى: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} قال ابن جريج: سألوه طردهم أنفة منهم، فقال: لا يجوز لي طردهم، إِذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بايمانهم، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغَّر شؤونهم.
وفي قوله: {ولكني أراكم قوما تجهلون} قولان:
أحدهما: تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى، قاله ابن عباس.
والثاني: تجهلون لأمركم إِياي بطرد المؤمنين، قاله أبو سليمان.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8